لقاء.. مع إبليس
فصول هذه القضية كانت أشبه بالنادي الحزين.. بطلها فلاح مصري يقطن إحدي قري صعيد مصر.. أنجب ولدين كانا قرة عينيه.. عاش علي ما تعطيه أرضه من رزق وخير، لكن طموحاته كانت أكبر من واقعه.. أراد أن يقلد أبناء قريته الذين باعوا أرضهم ونزحوا إلي العاصمة ووجدوا في التجارة شطارة ودخول دنيا الثراء من أوسع الأبواب.. وبدأت الهواجس تطارده.. لماذا لا يصبح مثلهم؟.. همه أحسن مني في إيه.. ليه ما بقاش أحسن منهم، وفعلاً لم يصمد كثيراً أمام أفكاره.. قرر أن يبيع أرضه التي كانت بالنسبة له مثل الماء والهواء.. والبقرة الحلوب التي تدر عليه الخير كل الخير.. وعزم وتوكل وباع أرضه التي ورثها عن أجداده وأفني فيها طفولته وشبابه وأغمض عينيه عن نظرات أبناء القرية التي كانوا يرمقونه في »الجاية والرايحة« ولسان حالهم يقول في سخرية: »ليه يا عوضين بعت القيراطين«.. »اللي يفرط في أرضه زي اللي يفرط في عرضه«. وسافر الأب وولداه إلي القاهرة المدينة التي لا تنام والحيرة تستبد بفكره، هل كان مخطئاً أم مصيباً عندما باع أرضه وترك قريته ونزح إلي عالم المجهول.. وقد كان عالم القاهرة بأضوائها وسحرها وجمالها بمثابة المجهول بالنسبة له. أحس في أول يوم نزح فيه إلي القاهرة أنه سقط في بحر لا شاطئ له تتصارعه الأمواج.. فهل سيتحقق حلمه ويصل إلي شاطئ الأمان؟ كان إصرار الرجل بلا حدود وعزمه وجلده لا يتوقفان اشتري علي الفور منزلاً يجاوره مخبر بدأ العمل فيه بجد منذ اليوم الأول.. كان ساعده الأيمن ابنه الأكبر كان يعمل في الفرن بلا توقف.. يصل الليل بالنهار عيناه لا تغيب عن العمال حتي يزيد الإنتاج ويحقق حلم أبيه ويرفع رأسه وسط أهل قريته. كان اللي معه فالله دائماً مع الكادحين المخلصين في عملهم.. زاد الإنتاج واتسعت رقعة التوزيع عاماً بعد عام. أما الابن الأصغر فقد أصر الأب والأخ علي مواصلة تعليمه حتي يحصل علي »الشهادة العالية« كما كانا يسميانها. وأدرك الأب أن الأيام تسرق ابنه وأن قطار العمر يمضي به وهو لا يفكر إلا في المخبز ولا ينصرف ذهنه إلا في العمل، فصمم علي ألا يتركه علي هذا الحال.. لابد أن يتم نصف دينه واختار له فتاة تسكن في الحي الذي يقيمون فيه. كانت حسناء ممشوقة القوام شعرها غجري.. عيناها كعيون المها.. ضحكتها تنفذ إلي القلب فلا تتركه سليماً. وعاش الابن الأكبر مع زوجته في منزل الأسرة يعوض الليالي الحالكة التي كان يقضيها سابحاً في عرقه أمام نيران الفرن.. إنه أمام نار من نوع جديد لا تقل في لهيبها عن تلك النار التي كانت تلفح وجهه أمام الفرن. كانت زوجته كالقطة السيامي.. سحرت الجميع بأسلوبها اللبق وبهرتهم بجمالها الفتان. واحتلت رؤوسهم بقدها الممشوق.. غطت المنزل ببهجة لم يعهدوها من قبل.. بدلت ذلك السكون الذي كان يخيم علي المسكن من قبل وكأنه منزل مهجور لا حس فيه ولا حياة.. أصبحت هي الملكة المتوجة علي عرش أفئدة الجميع التي امتلأت بحبها والإعجاب بها. ولم يستطع الابن الأصغر أن يقاوم سحرها وخفة دمها بعد أن لطشت قلبه البكر وسرقت عقله المتعطش إلي الحب.. بدأت أحواله تتبدل.. بدأ يهتم بمظهره.. بملبسه يقتني الروائح النفاذة علها تنفذ إلي قلبها بعد أن أطارت النوم من عينيه وزرعت جذور حبها في أعماق قلبه.. كان لا ينام الليل ولا النهار.. قلبه يخفق دائماً يردد أنشودة حبها.. كان يطيل النظر إليها تغمره سعادة لا حدود لها، إذا ابتسمت خيل إليه أنها تبتسم له وحده فكأنما ملك الدنيا وكأن السعادة فتحت له أبوابها علي مصراعيها، واستبدت الحيرة بالشاب واستحوذ عليه القلق وقد كتم حبها داخل أضلاعه.. كم تساءل في ليله الطويل الذي لا تغمض له جفن فيه.. هل نفذ الحب إلي قلبها مثل قلبه الذي أدماه حبها.. هل تسربت نار نيرانه إلي أحاسيسها فباتت تتقلب كما يحدث له وكأنه ينام علي الجمر. كل هذه الأسئلة كانت تدور في عقل الفتي وهو حائر هائم لا يعرف لها إجابة. وقطع عليه هذه الحيرة وهذا القلق الذي يستبد به عندما طلبت منه أن يقابلها خارج المنزل بعيداً عن أعين شقيقه ووالده. في تلك اللحظة عمته الفرحة وكأن الدنيا كلها ملك يديه، واعتقد أن الطير قد وقع وأن سهام الحب قد أدمت قلبه، واعتقد أنها قد نفذت إلي قلبها بـ»كيوبيد« الذي ذبح قلبه من قبل فأدماه ومازال ينزف حتي تلك اللحظة. والتقي بها بعيداً عن عيون العزال وانفرجت أساريره عندما التقت به وبادرته بابتسامتها المعهودة، فأحس وقتها أن ظنونه قد اقتربت من الحقيقة وأنها جاءت لتصارحه بحبها، وتلعثم لسانه وتحجرت الكلمات بين شفتيه حتي قطعت هي سكوت اللقاء وهي تضغط علي يده قائلة: ـ أنا حبيت ولم يتركها تكمل الحديث عندها تشجع وهو يقول: ـ أنا عارف كل حاجة ازداد رنين ضحكتها وهي تقول في غرابة: ـ والله ما أنت عارف حاجة، طيب قوللي إنت عارف إيه؟ أحب أن يسمع منها حديث الحب، ذلك الحديث الذي سهر الليالي الطويلة يسمعه في خياله.. لقد حانت اللحظة التي أصبح الحلم حقيقة وها هي جاءت إليه بقدميها لتعلن له هذا الحب الذي طال انتظار.. عليه أن يتمهل قليلاً فقد مضي الكثير وما بقي إلا القليل فليسمع منها هي إعلان حبها. وبدأت في الحديث والبسمة لا تفارق شفتيها: ـ أنا.. جيت.. أقولك.. إني عاوزاك تتجوز أختي، هي بتحبك وأنت مش حتلاقي أحسن منها. تسمرت عيناه وجمد الدم في عروقه، وهو يسمع منها هذه الكلمات.. كانت مفاجأة غير متوقعة.. كان حديثها كالصاعقة التي حلت برأسه وشلت فكره.. فما عاد قادراً علي الإجابة أو مجاراتها في الحديث. ربما أحست وقتها بأن الخبر كان مفاجأة له فقد كانت ذكية لماحة وسألته: ـ مالك.. اتخدت كده ليه؟ انت مكسوف ولا إيه؟ لم يسعفه لسانه في أن يرد عليها وهو مطأطأ الرأس كسير النفس وقد استبدت به خيبة الأمل وهو يجيب عنها.. السؤال في تلعثم: ـ أبداً.. أبداً.. واستمر يرددها وكأنه لا يدري ماذا يقول! وتركته في حيرته وقد قررت الانصراف حتي لا يراهما أحد منفردين قائلة: ـ علي العموم أنا حا اسيبك دلوقتي وأنا عارفه إنك حتوافق.. حا اسيب لك فرصة تفكر فيها برواقة. لحظتها أحس بعد أن تركته أنه يتيم وحيد في هذه الدنيا وأن الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت، وأن أماله وأحلامه قد تحطمت بلا رحمة وبلا هوادة علي صخرة الواقع المرير والأليم، أحس أنه عاش الأيام والليالي حالماً واهماً يغوص في بحور الخيال يعذب نفسه في نيران الحب التي يكتوي بنارها هو فقط، فكر جدياً في أن يلفظها من حياته وأن يطردها من فكره ولكن ما لبث هذا الفكر أن تبدد أمام وساوس الشيطان التي بدأت تترسب إلي أوصاله وتستبد إلي مخيلته وتنهش فكره من جديد أعاده الشيطان إلي
فصول هذه القضية كانت أشبه بالنادي الحزين.. بطلها فلاح مصري يقطن إحدي قري صعيد مصر.. أنجب ولدين كانا قرة عينيه.. عاش علي ما تعطيه أرضه من رزق وخير، لكن طموحاته كانت أكبر من واقعه.. أراد أن يقلد أبناء قريته الذين باعوا أرضهم ونزحوا إلي العاصمة ووجدوا في التجارة شطارة ودخول دنيا الثراء من أوسع الأبواب.. وبدأت الهواجس تطارده.. لماذا لا يصبح مثلهم؟.. همه أحسن مني في إيه.. ليه ما بقاش أحسن منهم، وفعلاً لم يصمد كثيراً أمام أفكاره.. قرر أن يبيع أرضه التي كانت بالنسبة له مثل الماء والهواء.. والبقرة الحلوب التي تدر عليه الخير كل الخير.. وعزم وتوكل وباع أرضه التي ورثها عن أجداده وأفني فيها طفولته وشبابه وأغمض عينيه عن نظرات أبناء القرية التي كانوا يرمقونه في »الجاية والرايحة« ولسان حالهم يقول في سخرية: »ليه يا عوضين بعت القيراطين«.. »اللي يفرط في أرضه زي اللي يفرط في عرضه«. وسافر الأب وولداه إلي القاهرة المدينة التي لا تنام والحيرة تستبد بفكره، هل كان مخطئاً أم مصيباً عندما باع أرضه وترك قريته ونزح إلي عالم المجهول.. وقد كان عالم القاهرة بأضوائها وسحرها وجمالها بمثابة المجهول بالنسبة له. أحس في أول يوم نزح فيه إلي القاهرة أنه سقط في بحر لا شاطئ له تتصارعه الأمواج.. فهل سيتحقق حلمه ويصل إلي شاطئ الأمان؟ كان إصرار الرجل بلا حدود وعزمه وجلده لا يتوقفان اشتري علي الفور منزلاً يجاوره مخبر بدأ العمل فيه بجد منذ اليوم الأول.. كان ساعده الأيمن ابنه الأكبر كان يعمل في الفرن بلا توقف.. يصل الليل بالنهار عيناه لا تغيب عن العمال حتي يزيد الإنتاج ويحقق حلم أبيه ويرفع رأسه وسط أهل قريته. كان اللي معه فالله دائماً مع الكادحين المخلصين في عملهم.. زاد الإنتاج واتسعت رقعة التوزيع عاماً بعد عام. أما الابن الأصغر فقد أصر الأب والأخ علي مواصلة تعليمه حتي يحصل علي »الشهادة العالية« كما كانا يسميانها. وأدرك الأب أن الأيام تسرق ابنه وأن قطار العمر يمضي به وهو لا يفكر إلا في المخبز ولا ينصرف ذهنه إلا في العمل، فصمم علي ألا يتركه علي هذا الحال.. لابد أن يتم نصف دينه واختار له فتاة تسكن في الحي الذي يقيمون فيه. كانت حسناء ممشوقة القوام شعرها غجري.. عيناها كعيون المها.. ضحكتها تنفذ إلي القلب فلا تتركه سليماً. وعاش الابن الأكبر مع زوجته في منزل الأسرة يعوض الليالي الحالكة التي كان يقضيها سابحاً في عرقه أمام نيران الفرن.. إنه أمام نار من نوع جديد لا تقل في لهيبها عن تلك النار التي كانت تلفح وجهه أمام الفرن. كانت زوجته كالقطة السيامي.. سحرت الجميع بأسلوبها اللبق وبهرتهم بجمالها الفتان. واحتلت رؤوسهم بقدها الممشوق.. غطت المنزل ببهجة لم يعهدوها من قبل.. بدلت ذلك السكون الذي كان يخيم علي المسكن من قبل وكأنه منزل مهجور لا حس فيه ولا حياة.. أصبحت هي الملكة المتوجة علي عرش أفئدة الجميع التي امتلأت بحبها والإعجاب بها. ولم يستطع الابن الأصغر أن يقاوم سحرها وخفة دمها بعد أن لطشت قلبه البكر وسرقت عقله المتعطش إلي الحب.. بدأت أحواله تتبدل.. بدأ يهتم بمظهره.. بملبسه يقتني الروائح النفاذة علها تنفذ إلي قلبها بعد أن أطارت النوم من عينيه وزرعت جذور حبها في أعماق قلبه.. كان لا ينام الليل ولا النهار.. قلبه يخفق دائماً يردد أنشودة حبها.. كان يطيل النظر إليها تغمره سعادة لا حدود لها، إذا ابتسمت خيل إليه أنها تبتسم له وحده فكأنما ملك الدنيا وكأن السعادة فتحت له أبوابها علي مصراعيها، واستبدت الحيرة بالشاب واستحوذ عليه القلق وقد كتم حبها داخل أضلاعه.. كم تساءل في ليله الطويل الذي لا تغمض له جفن فيه.. هل نفذ الحب إلي قلبها مثل قلبه الذي أدماه حبها.. هل تسربت نار نيرانه إلي أحاسيسها فباتت تتقلب كما يحدث له وكأنه ينام علي الجمر. كل هذه الأسئلة كانت تدور في عقل الفتي وهو حائر هائم لا يعرف لها إجابة. وقطع عليه هذه الحيرة وهذا القلق الذي يستبد به عندما طلبت منه أن يقابلها خارج المنزل بعيداً عن أعين شقيقه ووالده. في تلك اللحظة عمته الفرحة وكأن الدنيا كلها ملك يديه، واعتقد أن الطير قد وقع وأن سهام الحب قد أدمت قلبه، واعتقد أنها قد نفذت إلي قلبها بـ»كيوبيد« الذي ذبح قلبه من قبل فأدماه ومازال ينزف حتي تلك اللحظة. والتقي بها بعيداً عن عيون العزال وانفرجت أساريره عندما التقت به وبادرته بابتسامتها المعهودة، فأحس وقتها أن ظنونه قد اقتربت من الحقيقة وأنها جاءت لتصارحه بحبها، وتلعثم لسانه وتحجرت الكلمات بين شفتيه حتي قطعت هي سكوت اللقاء وهي تضغط علي يده قائلة: ـ أنا حبيت ولم يتركها تكمل الحديث عندها تشجع وهو يقول: ـ أنا عارف كل حاجة ازداد رنين ضحكتها وهي تقول في غرابة: ـ والله ما أنت عارف حاجة، طيب قوللي إنت عارف إيه؟ أحب أن يسمع منها حديث الحب، ذلك الحديث الذي سهر الليالي الطويلة يسمعه في خياله.. لقد حانت اللحظة التي أصبح الحلم حقيقة وها هي جاءت إليه بقدميها لتعلن له هذا الحب الذي طال انتظار.. عليه أن يتمهل قليلاً فقد مضي الكثير وما بقي إلا القليل فليسمع منها هي إعلان حبها. وبدأت في الحديث والبسمة لا تفارق شفتيها: ـ أنا.. جيت.. أقولك.. إني عاوزاك تتجوز أختي، هي بتحبك وأنت مش حتلاقي أحسن منها. تسمرت عيناه وجمد الدم في عروقه، وهو يسمع منها هذه الكلمات.. كانت مفاجأة غير متوقعة.. كان حديثها كالصاعقة التي حلت برأسه وشلت فكره.. فما عاد قادراً علي الإجابة أو مجاراتها في الحديث. ربما أحست وقتها بأن الخبر كان مفاجأة له فقد كانت ذكية لماحة وسألته: ـ مالك.. اتخدت كده ليه؟ انت مكسوف ولا إيه؟ لم يسعفه لسانه في أن يرد عليها وهو مطأطأ الرأس كسير النفس وقد استبدت به خيبة الأمل وهو يجيب عنها.. السؤال في تلعثم: ـ أبداً.. أبداً.. واستمر يرددها وكأنه لا يدري ماذا يقول! وتركته في حيرته وقد قررت الانصراف حتي لا يراهما أحد منفردين قائلة: ـ علي العموم أنا حا اسيبك دلوقتي وأنا عارفه إنك حتوافق.. حا اسيب لك فرصة تفكر فيها برواقة. لحظتها أحس بعد أن تركته أنه يتيم وحيد في هذه الدنيا وأن الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت، وأن أماله وأحلامه قد تحطمت بلا رحمة وبلا هوادة علي صخرة الواقع المرير والأليم، أحس أنه عاش الأيام والليالي حالماً واهماً يغوص في بحور الخيال يعذب نفسه في نيران الحب التي يكتوي بنارها هو فقط، فكر جدياً في أن يلفظها من حياته وأن يطردها من فكره ولكن ما لبث هذا الفكر أن تبدد أمام وساوس الشيطان التي بدأت تترسب إلي أوصاله وتستبد إلي مخيلته وتنهش فكره من جديد أعاده الشيطان إلي