الدعوة خارج مكة(الجزء الثاني):
- الإسراء والمعراج:
ها هى البشارات تتوالى، والانتصارات تتعاقب فى دأب شديد! ولئن بدا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهزومًا فى عالم الشهادة، فلقد غدا منصورًا فى عالم الغيب، الجن تؤمن به -فى رحلة العودة من الطائف- حين كفر الناس، وأبواب السماء تفتح له، حين أغلقت فى وجهه أبواب الأرض. أسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق، بصحبة جبريل -عليه السلام-، وبالمسجد الأقصى حيث أبناء إبراهيم من ولده إسحاق -عليهم السلام-، صلى محمد بالأنبياء إمامًا وكأن ذلك إيذان بانتقال النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل -عليهما وعلى أبيهما السلام-، ثم عرج به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العلا حيث توالت رؤيته للآيات العجيبة، وأمام ربه -عز وجل- كان فرض الصلوات الخمس، فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى قومه أخبرهم بما أراه الله -عز وجل-، فكذبوه وآذوه، فساق لهم من دلائل صدقه ما يقنع عقولهم السقيمة، غير أنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور.
- بيعة العقبة الأولى:
إن النبتة التى غرسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده فى موسم الحج فى السنة الحادية عشرة للنبوة، قد اشتد عودها، حتى جاء فى الموسم التالى اثنا عشر رجلاً، خمسة من الستة الذين قابلوه فى العام الماضى، وسبعة جدد، جاءوا يبايعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى، بيعة كبيعة النساء يوم فتح مكة -أى على الإيمان والطاعة-، دون حرب أو قتال، وقد بعث النبى -صلى الله عليه وسلم- معهم شابًا من السابقين إلى الإسلام هو مصعب بن عمير العبدرى؛ ليعلم من أسلم بيثرب شئون دينهم، ويدعو بها من لم يسلم بعد، وقد بارك الله فى سفارة مصعب، وكان يعرف بالمقرئ، وآمن بدعوته أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ سيدا قومهما من بنى عبد الأشهل، وقصة إسلامهما تنبئ بحكمة مصعب ودماثة خلقه، وقد أقام مصعب فى دار أسعد بن زرارة يقوم بما انتدب له بجد وحماس حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، فقد وقف بهم عن الإسلام قيس بن الأسلت الشاعر حتى عام الخندق العام الخامس للهجرة. ولم يأت العام المقبل: العام الثالث عشر للنبوة إلا ومصعب قد عاد إلى مكة، يزف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشائر الفوز، وبوارق الأمل، فى قبائل يثرب، وما بها من خير ومنعة.
- بيعة العقبة الثانية:
الله أكبر!! موسم الحجيج للعام الثالث عشر من النبوة يسفر عن غرس محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد استغلظ واستوى على سوقه، وفد يثرب يقدم قاصدًا مكة وبين صفوفه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ممن أسلم وآمن بالدين الجديد، لا ينهزهم إلا شوقهم للقيا نبى الله -صلى الله عليه وسلم-، ومبايعته على النصرة وتحت جناح الليل، وبعد مضى ثلثه الأول، كان التسلل خفية، للقاء الموعود، عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، حسب الاتفاق المضروب، وبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه العباس عمه -وهو بعد على دين قومه-، أما أبو بكر وعلى فقد وقف كل منهما عينًا على الطريق؛ لحراسة الاجتماع السرى، وقبل أن يسرد النبى -صلى الله عليه وسلم- بنود البيعة أكد العباس على خطورتها، وبعد أن سردها فقد كرر التأكيد على خطورة البيعة، الأنصاريان السابقان: العباس بن عبادة، وأسعد بن زرارة، لكن الأنصار الذين عرف الإسلام طريقه إلى قلوبهم، ما كادوا يستمعون إلى قولهما حتى بادروا إلى مصافحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلين: والله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها. وبعد أن تمت البيعة، قام الأنصار تنفيذًا لطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باختيار اثنى عشر نقيبًا، حتى إذا تمت البيعة، اكتشف شيطان المعاهدة فصاح على قريش يستفزهم، وسعت قريش لمطاردة المبايعين؛ لقتل حركة تعلم جيدًا شدة خطورتها، لكن الله سترهم، ولم تظفر قريش إلا بسعد بن عبادة الذى أجاره المطعم بن عدى، والحارث بن حرب بن أمية، فعاد سالمًا إلى ركبه، وعاد الجمع الميمون إلى المدينة ينشرون دعوة الله، ويهيئون يثرب لإقامة دولة الإسلام الأولى فى الأرض، ويستعدون لاستقبال المهاجرين، ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
- الهجرة إلى يثرب:
كانت بيعة العقبة الثانية أخطر انتصار حققته الدعوة منذ ولادتها، فقد صار لها اليوم حصن ووطن، وسط صحراء العرب الواسعة، وكما أدرك هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسرع فى إرسال المسلمين إلى يثرب ليبادروا إلى تأسيس المجتمع الجديد بها، فإن قريشًا قد انتبهت لذلك أيضًا، فأخذت تحول بينهم وبين الهجرة، وفى ظل هذا المناخ القلق كان المسلمون يلوذون فرارًا إلى يثرب، لا يحملون معهم سوى إيمانهم بالله ويقينهم به، مخلفين وراءهم بيوتهم وأموالهم، وتجارتهم ومصالحهم، بل بعض أهليهم فى العديد من الأحيان. وإن هجرة كهجرة أبى سلمة وزوجته، وكهجرة صهيب الرومى، أو هجرة عياش بن أبى ربيعة، لتوضح لنا ما كان المسلمون يلاقونه من كيد قريش حتى يمنعوهم من الهجرة، لكن عناية الله ورحمته حالت دونهم وما يبغون، فما مضى بعد بيعة العقبة إلا شهران وبضعة أيام حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله، وأبو بكر، وعلى -أقاما بأمره لهما-، ومن احتبسه المشركون كرهًا.
- مؤامرة قريش:
إن الخطر الذى كانت تراه قريش بعقلها حين تفكر فى أمر هذه الدعوة قد أخذ يتجسد الآن بعد هجرة المسلمين إلى يثرب، حتى صارت تراه حقيقة بعيونها المندهشة!، ولئن هى صبرت على محمد -صلى الله عليه وسلم- دون أن تغمد فى صدره سيفها فيما مضى احترامًا لأبى طالب، أو إبقاءً على ود بنى هاشم، أو إجلالاً لجوار المطعم بن عدى، فإن ما يحدث بيثرب الآن يدفعها دفعًا؛ لتجهز على هذا النبى قبل أن يلحق بأتباعه، فلا تستطيع رد سهم قد نفذ. واجتمعت فى دارالندوة فى السادس والعشرين من صفر سنة أربع عشرة من البعثة وجوه قريش الممثلة لكافة بطونها، وظلوا يتدارسون بينهم خطة الإجهاز على نبى الله -صلى الله عليه وسلم- وانتهت المشاورة إلى أخبث خطة لقتل من أرسل رحمة للعالمين... محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- هجرة النبى -صلى الله عليه وسلم-:
"على رسلك فإنى أرجو أن يؤذن لى". هكذا كانت إجابة النبى -صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر حين تجهز للهجرة إلى المدينة، وما إن علم الصديق بذلك حتى حبس نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليصحبه، وعلف راحلتين بذلك استعدادًا للهجرة المرتقبة، وفى السابع والعشرين من صفر للسنة الرابعة عشرة من النبوة جاء الأمر بالهجرة من الله -عز وجل- إلى رسوله الكريم، فانطلق فى الظهيرة إلى صاحبه أبى بكر، متقنعًا؛ ليخبره الخبر، ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أبرم الخطة مع صديقه إلى بيته ينتظر مجيئ الليل، أما مشركو مكة فقد تعجلوا تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة، وقاموا بتطويق المنزل، حتى يغمدوا فى صدره الشريف سيوفهم إذا أرخى الليل أستاره، لكن رافع السماوات بغير عمد، مالك الملك، ومدبر الأمر -سبحانه وتعالى-، جرت مشيئته بأن يغادر الرسول بيته، ثم يلحق بأبى بكر؛ ليتحركا إلى غار ثور، وفى الغار كان اختباؤهما عن عيون قريش، التى جن جنونها، وأسرعت فى مطاردة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولما أعجزها الطلب؛ رصدت مكافأة ضخمة لمن يأتى لها بالمهاجرين حيين أو ميتين، فاجتمع عليه -صلى الله عليه وسلم- مع مطاردة قريش مطاردة سراقة بن مالك أيضًا. ومضى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حماية ربه وأمنه قدمًا فى الطريق إلى المدينة، وجرت له بها أحداث عديدة، منها: نزوله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر فى خيمة أم معبد، التى هنئت بمقدمه المبارك، ومازال الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتقدم فى مسيره حتى نزل بقباء، ثم دخل المدينة التى طال اشتياق أهلها لمجيئه وإقامته بها، وبعد أيام من وصوله لحق به أهله -صلى الله عليه وسلم- وأهل أبى بكر، ثم كانت هجرة على -كرم الله وجهه-.
- مطاردة سراقة:
فارس مترجل عن فرسه النجيبة، يحمل رمحه، ويسعى خلف رجل أعزل يطلب منه الأمان! والأعزل يسير قدمًا، يتلو قرآن ربه، ولا يلتفت إليه! تلك هى الصورة التى نقلتها لنا كتب السيرة لفارس بنى مدلج: سراقة بن مالك بن جعشم، حين خرج يطارد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق طامعًا فى مكافأة قريش، فعاندته فرسه وغاصت قوائمها فى الرمل مرارًا، حتى علم أن محمدًا وصاحبه ممنوعان، وأعطى محمد -صلى الله عليه وسلم- سراقة الأمان، كتابًا خطه عامر بن فهيرة، ليحتفظ به سراقة، سراقة الذى بدأ يومه محاربًا للنبى -صلى الله عليه وسلم-، ثم أنهى هذا اليوم مدافعًا عنه، بتضليل المطاردين له، وصرفهم عن هذا الطريق.
- فى الطريق إلى المدينة:
ثلاثة أيام مرت على النبى -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه فى الغار حتى هدأت المطاردة، ثم خرجا بعدها ليبدءا رحلتهما إلى المدينة بصحبة دليلهما عبدالله بن أريقط، الذى كان على دين قريش، وكانا قد عهدا إليه براحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وصحبهما أيضًا عامر بن فهيرة مولى أبى بكر، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بطعامهما، ثم تحرك الركب جنوبًا باتجاه اليمن، فغربًا نحو الساحل ثم شمالاً بمحاذاة الساحل، فى طريق لا يسلكه أحد إلا نادرًا، وكان الصديق خلال الرحلة يفرغ وسعه لراحة النبى -صلى الله عليه وسلم- وأمنه، فإذا سأله أحد: من هذا الرجل الذى بين يديك؟، أجابه: هذا الرجل يهدينى الطريق؛ حتى يخفى حقيقة النبى -صلى الله عليه وسلم- طلبًا لسلامته، ودون أن يكذب، وفى الطريق كانت هناك مفاجأة كبيرة تنتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه: تلك هى اعتراض بريدة بن الحصيب الأسلمى لهما طمعًا فى مكافأة قريش، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه إلى الإسلام، فأسلم من فوره مع سبعين رجلاً من قومه، ونزع عمامته، وعقدها برمحه، فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلاً وقسطًا، وكانت فرحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا النصر الجديد كبيرة، إذ بإسلام بريدة الذى كان سيد قومه دخلت قبيلة أسلم فى الإسلام، وصارت قاعدة إسلامية جديدة على الطريق بين مكة والمدينة، ولقى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى الطريق أيضًا الزبير، وهو فى كرب من المسلمين، كانوا تجارًا عائدين من الشام، فكسا الزبير النبى -صلى الله عليه وسلم-وصاحبه ثيابًا بيضاء.
- الإسراء والمعراج:
ها هى البشارات تتوالى، والانتصارات تتعاقب فى دأب شديد! ولئن بدا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهزومًا فى عالم الشهادة، فلقد غدا منصورًا فى عالم الغيب، الجن تؤمن به -فى رحلة العودة من الطائف- حين كفر الناس، وأبواب السماء تفتح له، حين أغلقت فى وجهه أبواب الأرض. أسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق، بصحبة جبريل -عليه السلام-، وبالمسجد الأقصى حيث أبناء إبراهيم من ولده إسحاق -عليهم السلام-، صلى محمد بالأنبياء إمامًا وكأن ذلك إيذان بانتقال النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل -عليهما وعلى أبيهما السلام-، ثم عرج به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العلا حيث توالت رؤيته للآيات العجيبة، وأمام ربه -عز وجل- كان فرض الصلوات الخمس، فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى قومه أخبرهم بما أراه الله -عز وجل-، فكذبوه وآذوه، فساق لهم من دلائل صدقه ما يقنع عقولهم السقيمة، غير أنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور.
- بيعة العقبة الأولى:
إن النبتة التى غرسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده فى موسم الحج فى السنة الحادية عشرة للنبوة، قد اشتد عودها، حتى جاء فى الموسم التالى اثنا عشر رجلاً، خمسة من الستة الذين قابلوه فى العام الماضى، وسبعة جدد، جاءوا يبايعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى، بيعة كبيعة النساء يوم فتح مكة -أى على الإيمان والطاعة-، دون حرب أو قتال، وقد بعث النبى -صلى الله عليه وسلم- معهم شابًا من السابقين إلى الإسلام هو مصعب بن عمير العبدرى؛ ليعلم من أسلم بيثرب شئون دينهم، ويدعو بها من لم يسلم بعد، وقد بارك الله فى سفارة مصعب، وكان يعرف بالمقرئ، وآمن بدعوته أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ سيدا قومهما من بنى عبد الأشهل، وقصة إسلامهما تنبئ بحكمة مصعب ودماثة خلقه، وقد أقام مصعب فى دار أسعد بن زرارة يقوم بما انتدب له بجد وحماس حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، فقد وقف بهم عن الإسلام قيس بن الأسلت الشاعر حتى عام الخندق العام الخامس للهجرة. ولم يأت العام المقبل: العام الثالث عشر للنبوة إلا ومصعب قد عاد إلى مكة، يزف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشائر الفوز، وبوارق الأمل، فى قبائل يثرب، وما بها من خير ومنعة.
- بيعة العقبة الثانية:
الله أكبر!! موسم الحجيج للعام الثالث عشر من النبوة يسفر عن غرس محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد استغلظ واستوى على سوقه، وفد يثرب يقدم قاصدًا مكة وبين صفوفه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ممن أسلم وآمن بالدين الجديد، لا ينهزهم إلا شوقهم للقيا نبى الله -صلى الله عليه وسلم-، ومبايعته على النصرة وتحت جناح الليل، وبعد مضى ثلثه الأول، كان التسلل خفية، للقاء الموعود، عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، حسب الاتفاق المضروب، وبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه العباس عمه -وهو بعد على دين قومه-، أما أبو بكر وعلى فقد وقف كل منهما عينًا على الطريق؛ لحراسة الاجتماع السرى، وقبل أن يسرد النبى -صلى الله عليه وسلم- بنود البيعة أكد العباس على خطورتها، وبعد أن سردها فقد كرر التأكيد على خطورة البيعة، الأنصاريان السابقان: العباس بن عبادة، وأسعد بن زرارة، لكن الأنصار الذين عرف الإسلام طريقه إلى قلوبهم، ما كادوا يستمعون إلى قولهما حتى بادروا إلى مصافحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلين: والله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها. وبعد أن تمت البيعة، قام الأنصار تنفيذًا لطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باختيار اثنى عشر نقيبًا، حتى إذا تمت البيعة، اكتشف شيطان المعاهدة فصاح على قريش يستفزهم، وسعت قريش لمطاردة المبايعين؛ لقتل حركة تعلم جيدًا شدة خطورتها، لكن الله سترهم، ولم تظفر قريش إلا بسعد بن عبادة الذى أجاره المطعم بن عدى، والحارث بن حرب بن أمية، فعاد سالمًا إلى ركبه، وعاد الجمع الميمون إلى المدينة ينشرون دعوة الله، ويهيئون يثرب لإقامة دولة الإسلام الأولى فى الأرض، ويستعدون لاستقبال المهاجرين، ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
- الهجرة إلى يثرب:
كانت بيعة العقبة الثانية أخطر انتصار حققته الدعوة منذ ولادتها، فقد صار لها اليوم حصن ووطن، وسط صحراء العرب الواسعة، وكما أدرك هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسرع فى إرسال المسلمين إلى يثرب ليبادروا إلى تأسيس المجتمع الجديد بها، فإن قريشًا قد انتبهت لذلك أيضًا، فأخذت تحول بينهم وبين الهجرة، وفى ظل هذا المناخ القلق كان المسلمون يلوذون فرارًا إلى يثرب، لا يحملون معهم سوى إيمانهم بالله ويقينهم به، مخلفين وراءهم بيوتهم وأموالهم، وتجارتهم ومصالحهم، بل بعض أهليهم فى العديد من الأحيان. وإن هجرة كهجرة أبى سلمة وزوجته، وكهجرة صهيب الرومى، أو هجرة عياش بن أبى ربيعة، لتوضح لنا ما كان المسلمون يلاقونه من كيد قريش حتى يمنعوهم من الهجرة، لكن عناية الله ورحمته حالت دونهم وما يبغون، فما مضى بعد بيعة العقبة إلا شهران وبضعة أيام حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله، وأبو بكر، وعلى -أقاما بأمره لهما-، ومن احتبسه المشركون كرهًا.
- مؤامرة قريش:
إن الخطر الذى كانت تراه قريش بعقلها حين تفكر فى أمر هذه الدعوة قد أخذ يتجسد الآن بعد هجرة المسلمين إلى يثرب، حتى صارت تراه حقيقة بعيونها المندهشة!، ولئن هى صبرت على محمد -صلى الله عليه وسلم- دون أن تغمد فى صدره سيفها فيما مضى احترامًا لأبى طالب، أو إبقاءً على ود بنى هاشم، أو إجلالاً لجوار المطعم بن عدى، فإن ما يحدث بيثرب الآن يدفعها دفعًا؛ لتجهز على هذا النبى قبل أن يلحق بأتباعه، فلا تستطيع رد سهم قد نفذ. واجتمعت فى دارالندوة فى السادس والعشرين من صفر سنة أربع عشرة من البعثة وجوه قريش الممثلة لكافة بطونها، وظلوا يتدارسون بينهم خطة الإجهاز على نبى الله -صلى الله عليه وسلم- وانتهت المشاورة إلى أخبث خطة لقتل من أرسل رحمة للعالمين... محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- هجرة النبى -صلى الله عليه وسلم-:
"على رسلك فإنى أرجو أن يؤذن لى". هكذا كانت إجابة النبى -صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر حين تجهز للهجرة إلى المدينة، وما إن علم الصديق بذلك حتى حبس نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليصحبه، وعلف راحلتين بذلك استعدادًا للهجرة المرتقبة، وفى السابع والعشرين من صفر للسنة الرابعة عشرة من النبوة جاء الأمر بالهجرة من الله -عز وجل- إلى رسوله الكريم، فانطلق فى الظهيرة إلى صاحبه أبى بكر، متقنعًا؛ ليخبره الخبر، ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أبرم الخطة مع صديقه إلى بيته ينتظر مجيئ الليل، أما مشركو مكة فقد تعجلوا تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة، وقاموا بتطويق المنزل، حتى يغمدوا فى صدره الشريف سيوفهم إذا أرخى الليل أستاره، لكن رافع السماوات بغير عمد، مالك الملك، ومدبر الأمر -سبحانه وتعالى-، جرت مشيئته بأن يغادر الرسول بيته، ثم يلحق بأبى بكر؛ ليتحركا إلى غار ثور، وفى الغار كان اختباؤهما عن عيون قريش، التى جن جنونها، وأسرعت فى مطاردة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولما أعجزها الطلب؛ رصدت مكافأة ضخمة لمن يأتى لها بالمهاجرين حيين أو ميتين، فاجتمع عليه -صلى الله عليه وسلم- مع مطاردة قريش مطاردة سراقة بن مالك أيضًا. ومضى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حماية ربه وأمنه قدمًا فى الطريق إلى المدينة، وجرت له بها أحداث عديدة، منها: نزوله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر فى خيمة أم معبد، التى هنئت بمقدمه المبارك، ومازال الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتقدم فى مسيره حتى نزل بقباء، ثم دخل المدينة التى طال اشتياق أهلها لمجيئه وإقامته بها، وبعد أيام من وصوله لحق به أهله -صلى الله عليه وسلم- وأهل أبى بكر، ثم كانت هجرة على -كرم الله وجهه-.
- مطاردة سراقة:
فارس مترجل عن فرسه النجيبة، يحمل رمحه، ويسعى خلف رجل أعزل يطلب منه الأمان! والأعزل يسير قدمًا، يتلو قرآن ربه، ولا يلتفت إليه! تلك هى الصورة التى نقلتها لنا كتب السيرة لفارس بنى مدلج: سراقة بن مالك بن جعشم، حين خرج يطارد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق طامعًا فى مكافأة قريش، فعاندته فرسه وغاصت قوائمها فى الرمل مرارًا، حتى علم أن محمدًا وصاحبه ممنوعان، وأعطى محمد -صلى الله عليه وسلم- سراقة الأمان، كتابًا خطه عامر بن فهيرة، ليحتفظ به سراقة، سراقة الذى بدأ يومه محاربًا للنبى -صلى الله عليه وسلم-، ثم أنهى هذا اليوم مدافعًا عنه، بتضليل المطاردين له، وصرفهم عن هذا الطريق.
- فى الطريق إلى المدينة:
ثلاثة أيام مرت على النبى -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه فى الغار حتى هدأت المطاردة، ثم خرجا بعدها ليبدءا رحلتهما إلى المدينة بصحبة دليلهما عبدالله بن أريقط، الذى كان على دين قريش، وكانا قد عهدا إليه براحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وصحبهما أيضًا عامر بن فهيرة مولى أبى بكر، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بطعامهما، ثم تحرك الركب جنوبًا باتجاه اليمن، فغربًا نحو الساحل ثم شمالاً بمحاذاة الساحل، فى طريق لا يسلكه أحد إلا نادرًا، وكان الصديق خلال الرحلة يفرغ وسعه لراحة النبى -صلى الله عليه وسلم- وأمنه، فإذا سأله أحد: من هذا الرجل الذى بين يديك؟، أجابه: هذا الرجل يهدينى الطريق؛ حتى يخفى حقيقة النبى -صلى الله عليه وسلم- طلبًا لسلامته، ودون أن يكذب، وفى الطريق كانت هناك مفاجأة كبيرة تنتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه: تلك هى اعتراض بريدة بن الحصيب الأسلمى لهما طمعًا فى مكافأة قريش، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه إلى الإسلام، فأسلم من فوره مع سبعين رجلاً من قومه، ونزع عمامته، وعقدها برمحه، فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلاً وقسطًا، وكانت فرحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا النصر الجديد كبيرة، إذ بإسلام بريدة الذى كان سيد قومه دخلت قبيلة أسلم فى الإسلام، وصارت قاعدة إسلامية جديدة على الطريق بين مكة والمدينة، ولقى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى الطريق أيضًا الزبير، وهو فى كرب من المسلمين، كانوا تجارًا عائدين من الشام، فكسا الزبير النبى -صلى الله عليه وسلم-وصاحبه ثيابًا بيضاء.